مبادرة السلام العربية... فرصة أخيرة لاستقرار المنطقة
عام تقريباً مر على القصف الإسرائيلي للبنان، وهو وقت كافٍ لاستخلاص الدروس والتوقف قليلاً لتأمل النتائج. ففي الأسبوع الماضي أصدرت لجنة "فينوجراد" الإسرائيلية تقريرها المؤقت لتقييم أداء إسرائيل خلال ما أسمته "بحملتها" العسكرية الأخيرة. غير أن التقرير فشل في الخروج بالدرس الأهم من حرب شهر يوليو الماضي، أو الحروب السابقة، والمتمثل في أن الحل العسكري لن يحقق الأمن لشعب إسرائيل، بل العكس من ذلك ستؤدي الحملات العسكرية إلى تقويض جهود إحلال الأمن والسلام في المنطقة. والحقيقة أن الطريق الوحيد أمام شعوب إسرائيل والعالم العربي للتمتع بالأمن والاستقرار هو من خلال تسوية سلمية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي.
وحرصاً من العرب على تحقيق هذا الهدف، جدد المشاركون في قمة الجامعة العربية الأخيرة بالرياض اقتراح السلام الذي طُرح أول مرة في قمة بيروت عام 2002. فمبادرة السلام العربية، كما يُشار إليها، اقترحتها المملكة العربية السعودية وحظيت بتأييد جميع الدول العربية، بحيث تنص على اعتراف جميع أعضاء الجامعة العربية بإسرائيل مقابل انسحابها إلى حدود ما قبل 5 يونيو 1967، والسماح بقيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة على ما يشكل 22% فقط من مجموع أراضي فلسطين التاريخية. ورغم أن الثمن باهظ للغاية، فإن العرب مستعدون لدفعه ما دام الطريق الواقعي الوحيد المنسجم مع جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة والمعنية بحل الصراع، فضلاً عن أنه الطريق الأفضل لضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم.
ولا بد من التأكيد هنا على أن الدول العربية لا تسعى مطلقاً إلى محو إسرائيل من الخريطة، بل نسعى إلى تحقيق أهداف مشروعة تتمثل في الوصول إلى هدنة وتأمين الحدود وضمان الاستقرار لجميع شعوب المنطقة والعيش في أمن وسلام. ولم يكن العنف الذي تفجر في الصيف الماضي سوى مظهر آخر من مظاهر الصراع، الذي عطل آفاق السلام بدلاً من أن ينعش آماله. وقد انتقد التقرير الصادر عن لجنة "فينوجراد" الحكومة الإسرائيلية بسبب تحديدها لأهداف غامضة وغير قابلة للتحقيق، والواقع أن الجيش الإسرائيلي اقترب كثيراً من هدفه، الذي أعلنه رئيس هيئة أركانه "دان حالوتس" عندما تعهد "بإعادة عقارب الساعة عشرين عاماً إلى الوراء في لبنان". واللافت أن التقرير لم يتضمن أية إشارة إلى حجم الدمار الذي لحق بمطارات لبنان وجسورها، فضلاً عما حاق بمحطات توليد الكهرباء من دمار امتد أيضاً إلى القرى التي قصفت، ما أسفر عن تهجير 12% من سكانها. والأكثر من ذلكـ، أن القصف الإسرائيلي على لبنان أدى إلى تكبيد الاقتصاد خسائر جسيمة، قُدرت بحوالي سبعة مليارات دولار، بينما خلف وراءه 1.2 مليون قنبلة عنقودية، تواصل قتل وتشويه المدنيين الأبرياء.
والأهم من ذلك تسببت الحرب في مصرع أكثر من 1200 مواطن لبناني، أغلبهم من المدنيين مجسداً ذلك الغبن المتواصل الذي يشعر به العرب، حيث السجل الإسرائيلي حافل بتدمير حياتهم وقطع أرزاقهم، ناهيك عن الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني واستمرار الاحتلال غير الشرعي للأراضي العربية. وقد جاءت حرب يوليو الماضية لتثبت مرة أخرى أن الحلول العسكرية والسعي إلى الثأر، ليس هو الرد المناسب لمعالجة عدم الاستقرار في المنطقة، بل إن الدبلوماسية والتوافق، هما أنجع الوسائل لتحقيق ذلك. ومن المفترض أن تشكل هذه الحرب والدروس المستخلصة منها حافزاً لإسرائيل للسعي إلى سلام شامل قائم على المبادرة العربية للسلام، لكن إغفال تقرير لجنة "فينوجراد" مناقشة تداعيات الحرب على فرص السلام، يقودنا إلى التساؤل عما إذا كانت إسرائيل تسعى إلى إدامة الصراع. إن هدف تحقيق الأمن والسلام الذي يتعين على الدولة العبرية أن تسعى إليه لن يرى النور إلا من خلال تسوية عادلة للصراع العربي الإسرائيلي، إذ لا بديل عن ذلك سوى المزيد من التطرف وعدم التسامح والدمار.
وعلى غرار الإسرائيليين لدى الشعوب العربية مخاوفها الأمنية المشروعة التي أكدتها المعاناة اللبنانية في الصيف الماضي. وكثيراً ما رأينا أطرافاً في الصراع تلجأ إلى القوة بدعوى الدفاع عن النفس فقط، لتزيد من تردي الوضع الأمني وتقوض السلام الذي تسعى إليه. لكن التصعيد الأمني يحدث أيضاً لعدم الالتزام بالقانون الدولي، حيث يستمر الاحتلال وخرق الطيران الإسرائيلي للأجواء اللبنانية والاعتقالات، وهدم البيوت، وامتهان الكرامة على نقاط التفتيش، فضلاً عن الهجمات والهجمات المضادة، التي تؤجج الغضب وتولد اليأس. ولا شك أن تكريس العداء بهذه الطريقة لا يتفق مع مساعي بناء الثقة التي تحتاجها المنطقة لتدعيم الاستقرار وإحلال الأمل. ومع ذلك ورغم استمرار الصراع لفترة طويلة والنتائج المعقدة الناجمة عنه، تظل الدبلوماسية الخيار الوحيد. أما الولايات المتحدة فهي، بالنظر إلى دورها الفريد في العالم، مطالبة بإظهار روح القيادة والشجاعة لمساعدة الطرفين على تحقيق سلام عادل ودائم، ذلك أن شعوب الشرق الأوسط لا تتطلع سوى إلى العيش بحرية وكرامة بعيداً عن التهديدات المتكررة لاندلاع الحرب واستمرار الاحتلال.
وقد يصبح هذا التطلع في المتناول إذا ما توافرت الإرادة السياسية، وتعلمنا من الدروس الصعبة للماضي، ذلك أن جهود التوصل إلى السلام ليست مجرد مسؤولية أميركية، بل هي من صميم مصالحها. فإنهاء الصراع في الشرق الأوسط سيفتح الطريق أمام الولايات المتحدة للتصالح مع العالم الإسلامي، لا سيما في ظل هذه الأوقات المليئة بالانقسام والراديكالية. لقد حاولت لجنة "فينوجراد" الخروج بخلاصات حول أداء القيادة السياسية والعسكرية لإسرائيل خلال حرب يوليو الماضية، لكن يبقى الدرس الأهم هو أن الطريق الأنجع لبلوغ سلام دائم سيكون نفسه سلمياً. وأخيراً نأمل أن يتم، بدعم من الولايات المتحدة وشركائها في اللجنة الرباعية، تبني مبادرة السلام العربية باعتبارها الأساس للوصول إلى سلام شامل في المنطقة. وفقط في تلك الحالة يمكننا، نحن شعوب الشرق الأوسط، أن نحقق هدفنا المشترك وننعم بالحرية في ظل أمن وسلام دائمين.
فؤاد السنيورة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
رئيس الوزراء اللبناني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"